استفزازات القبارصة اتخذ القبارصة من جزيرتهم مركزاً للوثوب على الموانئ الإسلامية في شرق البحر المتوسط وتهديد تجارة المسلمين، فقام «بطرس الأول لوزجنان» ملك قبرص بحملته الصليبية على الإسكندرية في سنة 767 هـ / 1365 م، وأحرق الحوانيت والخانات والفنادق، ودنست المساجد وعلق القبارصة عليها الصلبان، واغتصبوا النساء، وقتلوا الأطفال والشيوخ، ومكثوا بالمدينة ثلاثة أيام يعيثون فيها فساداً، ثم غادروها إلى جزيرتهم لما تحرك المماليك إليهم، وقد أخذوا معهم قرابة خمسة آلاف أسير، وفرحت بذلك أوروبا وهنأ ملوكها بعضهم بعضاً، كما هنأهم البابا. وتكررت مثل هذه الحملة على طرابلس الشام في سنة 796 هـ / 1393 م. وظلت غارات القبارصة لا تنقطع على الموانئ الإسلامية، ولم تفلح محاولات سلاطين المماليك في دفع هذا الخطر والقضاء عليه، وبلغ استهانة القبارصة بهيبة دولة المماليك واغترارهم بقوتهم أن اعتدى بعض قراصنتهم على سفينة مصرية سنة 826 هـ / 1423 م، وأسروا من فيها، ولم تفلح محاولات السلطان برسباي في عقد معاهدة مع «جانوس» ملك قبرص، تَضْمن عدم التعدي على تجار المسلمين. وتمادى القبارصة في غرورهم، فاستولوا على سفينتين تجاريتين، قرب ميناء دمياط، وأسروا من فيهما، وكانوا يزيدون على مائة رجل، ثم تجاوزوا ذلك فاستولوا على سفينة محملة بالهدايا كان قد أرسلها السلطان برسباي إلى السلطان العثماني «مراد الثاني»، عند ذلك لم يكن أمام برسباي سوى التحرك لدفع هذا الخطر، والرد على هذه الإهانات التي يواظب القبارصة على توجيهها لدولة المماليك، واشتعلت في نفسه نوازع الجهاد، والشعور بالمسئولية، فأعد ثلاث حملات لغزو قبرص، وذلك في ثلاث سنوات متتالية.
الحملات الثلاث خرجت الحملة الأولى في سنة 827 هـ / 1424 م، وكانت حملة صغيرة نزلت قبرص، وهاجمت ميناء «ليماسول»، وأحرقت ثلاث سفن قبرصية كانت تستعد للقرصنة، وغنموا غنائم كثيرة، ثم عادت الحملة إلى القاهرة.
شجع هذا الظفر أن يبادر برسباي بإعداد حملة أعظم قوة من سابقتها لغزو قبرص، فخرجت الحملة الثانية في رجب 828 هـ / مايو 1425 م مكونة من أربعين سفينة، واتجهت إلى الشام، ومنها إلى قبرص، حيث نجحت في تدمير قلعة ليماسول، وقُتل نحو خمسة آلاف قبرصي، وعادت إلى القاهرة تحمل بين يديها ألف أسير، فضلاً عن الغنائم التي حُملت على الجمال والبغال.
وفي الحملة الثالثة استهدف برسباي فتح الجزيرة وإخضاعها لسلطانه، فأعد حملة أعظم من سابقتيها وأكثر عددًا وعُدة، فأبحرت مائة وثمانون سفينة من رشيد في 829 هـ / 1426م، واتجهت إلى ليماسول، فلم تلبث أن استسلمت للقوات المصرية في 26 من شعبان 829 هـ / 2 من يوليو 1426 م، وتحركت الحملة شمالاً في جزيرة قبرص، وحاول ملك الجزيرة أن يدفع القوات المصرية، لكنه فشل وسقط أسيراً، واستولت القوات المصرية على العاصمة «نيقوسيا»، وبذا دخلت الجزيرة في طاعة دولة المماليك. واحتفلت القاهرة برجوع الحملة الظافرة التي تحمل أكاليل النصر، وشقّت الحملة شوارع القاهرة التي احتشد أهلها لاستقبال الأبطال في 8 من شوال 829 هـ / 14 من أغسطس 1426 م، وكانت جموع الأسرى البالغة 3700 أسير تسير خلف الموكب، وكان من بينها الملك جانوس وأمراؤه.
استقبل برسباي بالقلعة ملك قبرص، وكان بحضرته وفود من أماكن مختلفة، مثل: شريف مكة، ورسل من آل عثمان، وملك تونس، وبعض أمراء التركمان، فقبّل جانوس الأرض بين يدي برسباي، واستعطفه في أن يطلق سراحه، فوافق السلطان على أن يدفع مائتي ألف دينار فدية، مع التعهد بأن تظل قبرص تابعة لسلطان المماليك، وأن يكون هو نائباً عنه في حكمها، وأن يدفع جزية سنوية، واستمرت جزيرة قبرص منذ ذلك الوقت تابعة لمصر، حتى سنة 923 هـ / 1517 م التي سقطت فيها دولة المماليك على يد السلطان العثماني سليم الأول.