تواضعه وعدم تعاليه وتكبّره على الناس أو الانتقاص من قيمتهم، ذلك كما أمره الله -سبحانه-، فالتواضع من الأسباب التي ملك القلوب وتأليفها، وكان يجلس بين الصحابة دون أن يميّز نفسه بأي شيءٍ، ولا يترفّع على أي أحدٍ منهم، إذ كان يخرج في الجنائز، ويزور المرضى، ويجيب الدعوة.
حفظه للسانه وعدم نطقه بالسيء والقبيح من الأقوال، رُوي عن أنس بن مالك -رضي الله عنه-: (لَمْ يَكُنْ رَسولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ فَاحِشًا، ولَا لَعَّانًا، ولَا سَبَّابًا، كانَ يقولُ عِنْدَ المَعْتَبَةِ: ما له تَرِبَ جَبِينُهُ).
احترامه للكبير وعطفه على الصغير، فكان -عليه الصلاة والسلام- يقبّل الأطفال ويحنو عليهم.
حياؤه من ارتكاب الشرور من الأعمال، وبذلك لا يقع العبد بأي عملٍ لا تُحمد عواقبه.
وفاة النبي
توفّي النبي -عليه الصلاة والسلام- يوم الاثنين، الثاني عشر من شهر ربيع الأول من السنة الحادية عشر للهجرة النبوية، ذلك بعد مرضه واشتداده عليه، وطلب من زوجاته أن يمرّض ببيت أم المؤمنين عائشة، وكانت عادة رسول الله في مرضه أن يدعو الله -تعالى- ويُرقي نفسه، وكانت عائشة تفعل ذلك له أيضاً، وفي مرضه أشار بقدوم ابنته فاطمة الزهراء، وتحدّث إليها مرتين سرّاً فبكت في الأولى وضحكت في الثانية، فسألتها عائشة -رضي الله عنها- عن ذلك، فأجابتها بأنّه أخبرها في الأولى بأنّ روحه ستقبض، وأخبرها في الثانية بأنّها ستكون أول من يلحق به من أهل بيته.
وفي يوم وفاته -صلّى الله عليه وسلّم- كُشف ستار حجرته والمسلمين منتظمين للصلاة وتبسّم ضاحكاً، فظنّ أبا بكر أنّه يريد الصلاة معهم، إلّا أنّ النبي أشار عليه بإتمام الصلاة ثمّ أرخى الستار، واختلفت الروايات في تحديد عمره حين وفاته، فقيل: ثلاثة وستون سنةً وهو الأشهر، وقيل خمسة وستون، أو ستون، ودفن مكان وفاته في حفرةٍ حُفرت تحت فراشه الذي تُوفّي فيه في المدينة المنورة.
التبشير بالنبي محمد في التوراة والإنجيل
إشارة القرآن إلى ذكر النبي محمد صلى الله عليه وسلم في التوراة والإنجيل
قال الله تعالى في كتابه: {وَإِذْ قَالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ يَابَنِي إِسْرَائِيلَ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التَّوْرَاةِ وَمُبَشِّرًا بِرَسُولٍ يَأْتِي مِنْ بَعْدِي اسْمُهُ أَحْمَدُ فَلَمَّا جَاءَهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ قَالُوا هَذَا سِحْرٌ مُبِينٌ} [الصف: 6].
فهاتان الآيتان تدلان على أن النبي صلى الله عليه وسلم مذكور في التوراة والإنجيل، مهما أدعى اليهود والنصارى عدم ذلك، فإن كلام الله تعالى أحسن حديثا، وأصدق قيلا.
وعلى الرغم من إيماننا نحن معشر المسلمين بضياع أصول التوراة والإنجيل وبأن ما بقى منهما من ذكريات نقلت شفاهة لمدة قرن على الأقل (كما هو الحال مع الأناجيل) إلى عدة قرون تتعدى الثمانية (كما هو الحال مع التوراة)، وعلى الرغم من أن هذا الذي نقل شفاهة قد دون بأيدي مجهولين من البشر ليسوا بأنبياء ولا بمرسلين، وعلى الرغم من إضافة العديد من الرسائل التي لا علاقة لها بوحي السماء إلى ما قد دون، وعلى الرغم من جمع ذلك كله في القرن السابع عشر الميلادي تحت مسمى (العهدين القديم والجديد)، ومراجعة ترجماتها إلى اللغة الانجليزية بأمر من الملك البريطانى جيمس (The King JamesVersion of the Bible).
وعلى الرغم من المراجعات العديدة لتلك الطبعة ولغيرها من الطبعات (1535م إلى اليوم) وعلى الرغم من كثرة الإضافات والحذف والتعديل والتبديل، والتحريف والتغيير، والتحرير بعد التحرير، فإن بقاء ما يشهد بنبوة النبي محمد صلى الله عليه وسلم في هذه الكتابات جميعا يدحض محاولات النيل من مقامه الكريم.
النبوءات ببعثة النبي محمد صلى الله عليه وسلم في كتب الأولين
أولًا: في العهد القديم
جاء في سفر التكوين (الإصحاح 49/10) ما ترجمته: “لا يزول صولجان من يهوذا أو مشترع من قدميه حتى يأتي شيلوه وله يكون خضوع الشعوب”
وفى ترجمة أخرى للنص ذاته (دار الكتاب المقدس – بيروت ) جاء ما يلي: لا يزول قضيب من يهوذا ومشترع من بين رجليه حتى يأتي (شيلوه) وله يكون خضوع الشعوب”.
وفى تفسير هذا النص، ذكر القس المهتدى البروفسير عبد الأحد داود- رحمه الله رحمة واسعة- فى كتابه المعنون: (محمد في الكتاب المقدس) تحت عنوان:”محمد هو الشيلوه” بأن هذه النبوءة تشير بوضوح إلى النبي المنتظر لأن من معاني هذه الكلمة في اللغة العبرية شيلوه (Shilh) صاحب الصولجان والملك، ومن معانيها الهادىء المسالم، الأمين، الوديع والصيغة الآرامية (السيريانية) للكلمة هي شيليا (Shilya) بمعنى الأمين، والنبي محمد صلى الله عليه وسلم عرف من قبل بعثته الشريفة بلقب الصادق الأمين.
فى سفر التثنية
جاء فى سفر التثنية من العهد القديم على لسان نبي الله موسى مخاطبًا قومه قائلا لهم: (تثنية 18/15 – 20) ما ترجمته: “يقيم لك الرب إلهك: نبيًا من وسطك، من إخوتك، مثلى، له تسمعون، حسب كل ما طلعت من الرب إلهك فى حوريب يوم الاجتماع قائلا: لا أعود أسمع صوت الرب إلهي ولا أرى هذه النار العظيمة أيضا لئلا أموت، قال لي الرب: قد أحسنوا فيما تكلموا، أقيم لهم نبيًا من وسط إخوتهم مثلك وأجعل كلامي في فمه فيكلمهم بكل ما أوصيه به، ويكون أن الإنسان الذي لا يسمع لكلامي الذي يتكلم به باسمي أنا أطالبه، وأما النبي الذي يطغى فيتكلم باسمي كلاما لم أوصه أن يتكلم به أو الذي يتكلم باسم آلهة أخرى فيموت ذلك النبي”. والنبي الذي أقامه الله سبحانه تعالى لهداية الناس من وسط إخوة اليهود (وهم العرب) وهو يشبه موسى على نبينا وعليه من الله السلام هو سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم.
كذلك جاء في مطلع الإصحاح الثالث والثلاثين من سفر تثنية كذلك (تث 33/1) ما ترجمته: “وهذه هي البركة التي بارك بها موسى –رجل الله – بني إسرائيل قبل موته فقال:”جاء الرب من سيناء وأشرق لهم من سعير، وتلألأ من جبال فاران وأتى من ربوات القدس وعن يمينه نار شريعة لهم”. وجبال (فاران) أو (باران) كما جاء فى سفر التكوين (تك 21 /12) هي البرية التي هاجر إليها إسماعيل (عليه السلام) وأمه هاجر (رضي الله عنها).
وجاء في أغلب شروح الكتاب المقدس أن الاسم (فاران) أو (باران) هو تعبير عن جبال مكة المكرمة، وتلألؤ الله سبحانه وتعالى من جبل فاران هو إشارة إلى بدء تنزل هذا الوحي على النبي محمد في غار حراء فوق جبال مكة المكرمة، ومجيء الله تعالى من ربوات القدس وعن يمينه نار شريعة لهم – هو تنبؤ برحلة الإسراء والمعراج التي أكرم الله سبحانه وتعالى بها النبي محمد صلى الله وسلم كما استنتجه القس المهتدى عبد الأحد داوود (رحمه الله).
في سفر أشعيا
جاء في سفر أشعيا (أش 11/4) وصف النبي محمد بأنه إنما يقضي بعدل للمساكين، ويحكم بالإنصاف لبائسي الأرض، ويعاقب الأرض بقضيب فمه ويميت المنافق بنفخة شفتيه، لأنه سيرتدي البر ويتمنطق بالأمانة وهذه كلها من صفات النبي محمد الذي وصفه قومه من قبل بعثته الشريفة بوصف “الصادق الأمين”.
وجاء في سفر أشعيا أيضا (21/13-17) نبوءة بهجرة النبي وجاء ذلك بما ترجمته: “وحي من جهة بلاد العرب في الوعر من بلاد العرب تبتين يا قوافل الدانيين، هاتوا ماء لملاقاة العطشان يا سكان أرض تيماء، وافوا الهارب بخبزة، فإنهم من أمام السيوف قد هربوا من أمام السيف المسلول ومن أمام القوس المشدودة ومن أمام شدة الحرب فإنه هكذا قال لي السيد في مدة سنة كسنة الأجير يفنى كل مجد قيدار، وبقية عدد في أبطال بني قيدار تقل لأن الرب قد تكلم “والنبي الوحيد الذي هاجر من جبال مكة إلى قرب ثيماء هو النبي محمد صلى الله عليه وسلم.
وجاء فى “سفر حبقوق” (حبق 3/3) ما ترجمته :(الله جاء من تيمان والقدوس من جبل فاران سلاه = صلاة جلاله غطى السماوات والأرض امتلأت من تسبيحه، وكان لمعان كالنور، له من يده شعاع وهناك استتار قدرته). وإذا كان جبل فاران هو جبل مكة المكرمة (وبكة) فمَن من أنبياء الله غير النبي محمد صلى الله عليه وسلم هاجر من مكة إلى قرب تيماء (وهى شمال المدينة المنورة).
وفى المزامير المنسوبة إلى داوود: جاء فى المزمور الرابع والثمانين من العهد القديم (1-7) ما ترجمته: “ما أحلى مساكنك يارب الجنود، نشتاق بل تتوق نفسي إلى ديار الرب، قلبي ولحمى يهتفان بالإله الحي، العصفور أيضًا وجد بيتا والمسنونة عشا لنفسها حيث تضع أفراخها، مذابحك يارب الجنود ملكي وإلهي، طوبى للساكنين فى بيتك أبدًا يسبحونك، سلاه = صلاة”.
“طوبى لأناس عزهم بك، طرق بيتك في قلوبهم، عابرين في وادي البكاء = (وادي بكة) يصيرونه ينبوعا، أيضا ببركات يغطون مورة”.
وفي الترجمة الانجليزية لما يعرف باسم سلسلة ثومبسن للإنجيل المرجعي:(The Thompson Chain Reference Bible) والمنشور فى كل من ولايتي إنديانا وميتشجان بالولايات المتحدة الأمريكية سنة 1983م. جاء النص المشار إليه آنفا على النحو التالي:
(How lovely is your dwelling place, O lord Almighty, My soul yearns even faints for the courts of the lord,.. O lord Almighty, my king and my God, Blessed are Those who dwell in your house they are ever praising you. Selah (Salah) Blessed are those whose strength is in you, who have set their hearts on Pilgrimage, as They Pass Through The Valley of Baca, They make it a Place of spring, The autumn rains also cover it with pools of blessing)
والفرق بين الترجمتين العربية والانجليزية واضح وضوح الشمس في رابعة النهار، ودليل على التحريف الذي لا يخفى على عاقل .
ثانيًا: في العهد الجديد
في سفر رؤيا :
وجاء فى سفر رؤيا من العهد الجديد (رؤ 19/15,11) ما ترجمته : “ثم رأيت السماء مفتوحة ، وإذا حصان أبيض يسمى راكبه باسم (الصادق الأمين) الذي يقضي ويحارب بالعدل”
ووصف (الصادق الأمين) ينطبق على النبي محمد لأن أهل مكة المكرمة كانوا قد أطلقوا عليه هذا الوصف بالضبط من قبل بعثته الشريفة .
في إنجيل يوحنا:
ولعل من أهم هذه البشارات، هو ما ذكره نبي الله عيسى عليه السلام ، وأورده يوحنا في سفره، عندما تحدث عن وصية عيسى لتلاميذه :
” إن كنتم تحبونني فاحفظوا وصاياي، وأنا أطلب من الآب فيعطيكم آخر، ليمكث معكم إلى الأبد، روح الحق الذي لا يستطيع العالم أن يقبله، لأنه لا يراه ولا يعرفه، وأما أنتم فتعرفونه لأنه ماكث معكم، ويكون فيكم… إن أحبني أحد يحفظ كلامي، ويحبه أبي وإليه نأتي، وعنده نصنع منـزلاً الذي لا يحبني لا يحفظ كلامي والكلام الذي تسمعونه ليس لي بل للآب الذي أرسلني بهذا كلمتكم وأنا عندكم وأما المعزي الروح القدس الذي سيرسله الآب فهو يعلمكم كل شيء ويذكركم بكل ما قلته لكم …قلت لكم الآن قبل أن يكون، حتى متى كان تؤمنون لا أتكلم أيضاً معكم كثيراً لأن رئيس هذا العالم يأتي وليس له فيّ شيء “( يوحنا 14 : 30 ) .
وفي الإصحاح الذي يليه يعظ المسيح تلاميذه طالباً منهم حفظ وصاياه، ثم يقول: ” متى جاء المعزي الذي سأرسله أنا إليكم من الآب، روح الحق الذي من عند الآب ينبثق، فهو يشهد لي، وتشهدون أنتم أيضاً لأنكم معي في الابتداء قد كلمتكم بهذا لكي لا تعثروا، سيخرجونكم من المجامع، بل تأتي ساعة فيها يظن كل من يقتلكم أنه يقدم خدمة لله…. قد ملأ الحزن قلوبكم، لكني أقول لكم الحق: إنه خير لكم أن أنطلق، لأنه إن لم أنطلق لا يأتيكم المعزي، ولكن إن ذهبت أرسله إليكم ومتى جاء ذاك يبكت العالم على خطية وعلى بر وعلى دينونة، أما على خطية فلأنهم لا يؤمنون بي، وأما على بر فلأني ذاهب إلى أبي ولا ترونني أيضاً، وأما على دينونة فلأن رئيس هذا العالم قد دين. إن لي أموراً كثيرة أيضاً لأقول لكم، ولكن لا تستطيعون أن تحتملوا الآن، وأما متى جاء ذاك، روح الحق، فهو يرشدكم إلى جميع الحق، لأنه لا يتكلم من نفسه بل كل ما يسمع يتكلم به، ويخبركم بأمور آتية، ذاك يمجدني لأنه يأخذ مما لي ويخبركم” – يوحنا 15/26 – 16/14
وهذه الإشارة هنا على لسان عيسى عليه السلام ويوحنا من بعده عن ما أسماه ( المعزي ) هي إشارة لمحمد عليه الصلاة السلام، ولفظ ( المعزي ) هو ترجمة جديدة للفظ آخر تم إستبداله في القرون السابقة ، واللفظ القديم هو ( بارقليط ) وهو لفظة عبرية الأصل تعني المحامي ، المدافع.
أن ما جاء في سفر يوحنا عن المعزي، إنما هو بشارة المسيح بالنبي محمد صلى الله عليه وسلم وذلك يظهر من أمور منها لفظة ” المعزي ” لفظة حديثة استبدلتها التراجم الجديدة للعهد الجديد، فيما كانت التراجم العربية القديمة (1820م، 1831م، 1844م) تضع الكلمة اليونانية (البارقليط) كما هي، وهو ما تصنعه كثير من التراجم العالمية وفي تفسير كلمة ” بارقليط ” اليوناني نقول: إن هذا اللفظ اليوناني الأصل، لا يخلو من أحد حالين
الأول أنه “باراكلي توس”. فيكون بمعنى: المعزي والمعين والوكيل.
والثاني أنه ” بيروكلوتوس”، فيكون قريباً من معنى: محمد وأحمد .
وفي هذه النصوص يتحدث المسيح عن صفات الآتي بعده (النبي محمد)
البارقليط بشر نبي، وليس روح القدس كما يزعم البعض !
وأياً كان المعنى للبارقليط: أحمد أو المعزي فإن الأوصاف والمقدمات التي ذكرها المسيح للبارقليط تمنع أن يكون المقصود به روح القدس، وتؤكد أنه كائن بشري يعطيه الله النبوة. وذلك واضح من خلال التأمل في نصوص يوحنا عن البارقليط فإن يوحنا استعمل في حديثه عن البارقليط أفعالاً حسية (الكلام، والسمع، والتوبيخ) في قوله: ” كل ما يسمع يتكلم به ” وهذه الصفات لا تنطبق إلا على إنسان. على الألسنة النارية التي هبت على التلاميذ يوم الخمسين، إذ لم ينقل أن الألسنة تكلمت يومذاك بشيء، والروح غاية ما يصنعه الإلهام القلبي، وأما الكلام فهو صفة بشرية، لا روحية وقد فهم أوائل النصارى قول يوحنا بأنه بشارة بكائن بشري، وادعى مونتنوس في القرن الثاني (187م) أنه البارقليط القادم، ومثله صنع ماني في القرن الرابع فادعى أنه البارقليط، وتشبه بالمسيح فاختار اثنا عشر تلميذاً وسبعون أسقفاً أرسلهم إلى بلاد المشرق، ولو كان فهمهم للبارقليط أنه الأقنوم الثالث لما تجرؤوا على هذه الدعوى
ومن صفات الآتي أنه يجيء بعد ذهاب المسيح من الدنيا، فالمسيح وذلك الرسول المعزي لا يجتمعان في الدنيا، وهذا ما يؤكد مرة أخرى أن المعزى لا يمكن أن يكون الروح القدس الذي أيد المسيح طيلة حياته، بينما المعزي لا يأتي الدنيا والمسيح فيها ” إن لم أنطلق لا يأتيكم المعزي وروح القدس سابق في الوجود على المسيح، وموجود في التلاميذ من قبل ذهاب المسيح، فقد كان شاهداً عند خلق السماوات والأرض (انظر التكوين 1/2) كما كان له دور في ولادة عيسى حيث أن أمه ” وجدت حبلى من الروح القدس ” – متى 1/18 كما اجتمعا سوياً يوم تعميد المسيح، حين “نـزل عليه الروح القدس بهيئة جسمية مثل حمامة” (لوقا 3/22) فالروح القدس موجود مع المسيح وقبله، وأما المعزي ” إن لم أنطلق لا يأتيكم ” فهو ليس الروح القدس .
ومما يدل على بشرية الروح القدس أنه من نفس نوع المسيح، والمسيح كان بشراً، وهو يقول عنه: “وأنا أطلب من الآب فيعطيكم معزياً آخر”، وهنا يستخدم النص اليوناني كلمة allon وهي تستخدم للدلالة على الآخر من نفس النوع، فيما تستخدم كلمة hetenos للدلالة على آخر من نوع مغاير. وإذا قلنا إن المقصود من ذلك رسول آخر أصبح كلامنا معقولاً، ونفتقد هذه المعقولية إذا قلنا: إن المقصود هو روح القدس الآخر، لأن روح القدس واحد وغير متعدد.
ثم إن الآتي عرضة للتكذيب من قبل اليهود والتلاميذ، لذا فإن المسيح يكثر من الوصية بالإيمان به وأتباعه، فيقول لهم: ” إن كنتم تحبونني فاحفظوا وصاياي “، ويقول: ” قلت لكم قبل أن يكون، حتى إذا كان تؤمنوا ” ويؤكد على صدقه فيقول: ” لا يتكلم من نفسه بل كل ما يسمع يتكلم به فكل هذه الوصايا لا معنى لها إن كان الآتي هو الروح القدس، حيث نزل على شكل ألسنة نارية، فكان أثرها في نفوسهم معرفتهم للغات مختلفة، فمثل هذا لا يحتاج إلى وصية للإيمان به والتأكيد على صدقه كما أن الروح القدس أحد أطراف الثالوث، وينبغي وفق عقيدة النصارى أن يكون التلاميذ مؤمنين به، فلم أوصاهم بالإيمان به؟ وروح القدس وفق كلام النصارى إله مساو للآب في ألوهيته، وعليه فهو يقدر أن يتكلم من عند نفسه، وروح الحق الآتي ” لا يتكلم من نفسه، بل كل ما يسمع يتكلم به .
ودل نص يوحنا على تأخر زمن إتيان البارقليط، فقد قال المسيح لهم: ” إن لي أموراً كثيرة أيضاً لأقول لكم، ولكن لا تستطيعون أن تحتملوا الآن، وأما متى جاء ذاك روح الحق فهو يرشدكم إلى جميع الحق ” ( يوحنا 16 : 13 )، فثمة أمور يخبر بها هذا النبي لا يستطيع التلاميذ إدراكها، لأن البشرية لم تصل لحالة الرشد في فهم هذا الدين الكامل الذي يشمل مناحي الحياة المختلفة، ومن غير المعقول أن تكون إدراكات التلاميذ قد اختلفت خلال عشرة أيام من صعود المسيح إلى السماء، وليس في النصوص ما يدل على مثل هذا التغيير بل إن النصارى ينقلون عنهم أنهم بعد نزول الروح عليهم قد أسقطوا كثيراً من أحكام الشريعة وأحلوا المحرمات، فسقوط الأحكام عندهم أهون من زيادةٍ ما كان يحتملونها ويطيقونها زمن المسيح. فالبارقليط يأتي بشريعة ذات أحكام تثقل على المكلفين الضعفاء، كما قال الله: ” إِنَّا سَنُلْقِي عَلَيْكَ قَوْلاً ثَقِيلاً ” (المزمل : 5 ) .
كما أن عيسى عليه السلام أخبر أنه “قبل أن يأتي البارقليط سيخرجونكم من المجامع، بل تأتي ساعة فيها يظن كل من يقتلكم أنه يقدم خدمة لله” ( يوحنا 16 : 2 )، وهذا الأمر إنما حصل بعد الخمسين، واستمر الاضطهاد بأتباع المسيح حتى ندر الموحدون قبيل ظهور الإسلام .
وذكر يوحنا أن المسيح خبّر تلاميذه بأوصاف البارقليط، والتي لم تتمثل بالروح القدس الحال على التلاميذ يوم الخمسين، فهو شاهد تنضاف شهادته إلى شهادة التلاميذ في المسيح ” فهو يشهد لي، وتشهدون أنتم أيضاً ” ( يوحنا 15 : 16 ) فأين شهد الروح القدس للمسيح؟ وبم شهد؟ بينما نجد أن رسول الله صلى الله عليه وسلم شهد للمسيح بالبراءة من الكفر وادعاء الألوهية والبنوة لله، كما شهد ببراءة أمه مما رماها به اليهود الله: ” وَبِكُفْرِهِمْ وَقَوْلِهِمْ عَلَى مَرْيَمَ بُهْتَاناً عَظِيماً” ( النساء : 156 ). وأخبر المسيح عن تمجيد الآتي له، فقال: “ذاك يمجدني، لأنه يأخذ مما لي ويخبركم” ( يوحنا 16 : 14 ) ولم يمجد المسـيح أحد ظـهر بعده كما مجده نبي الإسلام ، فقد أثنى عليه وبين فضله على سائر العالمين هذا ولم ينقل لنا أي من أسفار العهد الجديد أن روح القدس أثنى على المسيح أو مجده يوم الخمسين، حين نزل على شكل ألسنة نارية.
وأخبر المسيح أن البارقليط يمكث إلى الأبد، أي دينه وشريعته، بينا نجد أن ما أعطيه التلاميذ من قدرات يوم الخمسين – إن صح – اختفت بوفاتهم، ولم ينقل مثله عن رجالات الكنيسة بعدهم وأما رسولنا صلى الله عليه وسلم فيمكث إلى الأبد بهديه ورسالته، وإذ لا نبي بعده ولا رسالة كما أن البارقليط ” يذكركم بكل ما قلته لكم ” ( يوحنا 14 : 26 ) وليس من حاجة بعد رفعه بعشرة أيام إلى مثل هذا التذكير، ولم ينقل العهد الجديد أن روح القدس ذكرهم بشيء، بل إنا نجد كتاباتهم ورسائلهم فيها ما يدل على تقادم الزمن ونسيان الكاتب لبعض التفاصيل التي يذكرها غيره، بينما ذكر رسول الله محمد صلى الله عليه وسلم بكل ما غفلت عنه البشرية من أوامر الله التي أنزلها على أنبيائه ومنهم المسيح عليه السلام .
والبارقليط له مهمات لم يقم بها الروح القدس يوم الخمسين فهو ” متى جاء ذاك يبكت العالم على خطية، وعلى بر، وعلى دينونة ” ( يوحنا 16 : 8 ) ولم يوبخ الروح القدس أحداً يوم الخمسين، بل هذا هو صنيع رسول الله صلى الله عليه وسلم مع البشرية الكافرة ويرى البروفيسور عبد الأحد داود أن التوبيخ على البر قد فسره المسيح بقوله بعده: ” وأما على بر فلأني ذاهب إلى أبي ولا ترونني ” ( يوحنا 16 : 10 ) ومعناه أنه سيوبخ القائلين بصلبه المنكرين لنجاته من كيد أعدائه، وقد أخبرهم أنه سيطلبونه ولن يجدوه، لأنه سيصعد إلى السماء، ” يا أولادي أنا معكم زماناً قليلاً بعد، ستطلبونني، وكما قلت لليهود حيث أذهب أنا لا تقدرون أنتم أن تأتوا، أقول لكم أنتم الآن…..” ( يوحنا 13: 32 ) كما سيوبخ النبي الآتي الشيطان ويدينه بما يبثه من هدي ووحي . وأما على دينونة فلأن رئيس هذا العالم قد دين .
وصفة التوبيخ لا تناسب من سمي بالمعزي، وقيل بأنه جاء إلى التلاميذ يعزيهم بفقد سيدهم ونبيهم. فالعزاء إنما يكون في المصائب، والمسيح كان يبشرهم بذهابه ومجيء الآتي بعد . ثم إن العزاء إنما يكون حين المصيبة وبعدها بقليل، وليس بعد عشرة أيام (موعد نزول الروح القدس على التلاميذ) ثم لماذا لم يقدم المعزي القادم العزاء لأم المسيح، فقد كانت أولى به ثم لا يجوز للنصارى أن يعتبروا قتل المسيح على الصليب مصيبة، إذ هو برأيهم سبب الخلاص والسعادة الأبدية للبشرية، فوقوعه فرحة ما بعدها فرحة، وإصرار النصارى على أن التلاميذ احتاجوا لعزاء الروح القدس يبطل عقيدة الفداء والخلاص. ومن استعراض ما سبق ثبت بأن روح القدس ليس هو البارقليط، فكل صفات البارقليط صفات لنبي يأتي بعد عيسى، وهو النبي الذي بشر به موسى عليه السلام، فالبارقليط ” لا يتكلم من نفسه بل كل ما يسمع يتكلم به ” وكذا الذي بشر به موسى ” أجعل كلامي في فمه فيكلمهم بكل ما أوصيه به “، وهو وصف النبي صلى الله عليه و سلم كما قال الله :”وَمَا يَنطِقُ عَنِ الْهَوَى {3} إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى {4} عَلَّمَهُ شَدِيدُ الْقُوَى” (النجم : 3 – 5 ) .
بل كل ما ذكر عن البارقليط له شواهد في القرآن والسنة تقول بأن الرسول صلى الله عليه وسلم هو صاحب هذه النبوءة، إذ هو الشاهد للمسيح، وهو المخبر بالغيوب، الذي لا نبي بعده، وقد ارتضى الله دينه إلى قيام الساعة ديناً .
أفلام تناولت حياة النبي محمد
The Message (1976) – FULL HD | Epic Story of Islam