معركة الزلاقة أو معركة سهل الزلاقة وقعت في 12 رجب 479 هـ / 23 أكتوبر 1086م بين جيوش دولة المرابطين متحدة مع جيش المعتمد بن عباد والتي انتصرت انتصاراً ساحقاً على قوات الملك القشتالى ألفونسو السادس. وقعت المعركة في سهل في الجزء الجنوبي لبلاد الأندلس يقال له الزلاقة، يقال أن السهل سمي بذلك نسبة لكثرة انزلاق المتحاربين على أرض المعركة بسبب كمية الدماء التي أريقت في ذاك اليوم وملأت أرض المعركة, وتسمى لدى المؤرخين الغربيين بنفس الاسم العربي لها. كان للمعركة تأثير كبير في تاريخ الأندلس الإسلامي, إذ أنها أوقفت زحف الصليبيين المطرد في أراضي ملوك الطوائف الإسلامية وقد أخرت سقوط الدولة الإسلامية في الأندلس لمدة تزيد عن قرنين ونصف.
ما قبل المعركة سقطت الدولة الأموية في الأندلس وتفككت إلى ما عرف باسم فترة ملوك الطوائف والتي شهدت العديد من النزاعات والحروب بين العديد من ملوكها الأمر الذي أدى إلى إضعاف موقف المسلمين في الأندلس، وهو ما أدى إلى الضعف العسكري، وأعطى الفرصة للنصارى المتربصين في الشمال أن يتوسعوا على حسابهم. وفي مقابل التجزئة والفرقة الأندلسية في عصر الطوائف كان النصارى يقيمون اتحاداً بين مملكتي ليون وقشتالة على يد فرديناد الأول الذي بدأ حرب الاسترداد التي تعني إرجاع الأندلس إلى النصرانية بدلاً من الإسلام. وواصل هذه الحرب من بعده ابنه ألفونس السادس، حيث بلغت ذروتها مع استيلاء ألفونس على مدينة طليطلة سنة 478 هـ / 1085م أهم المدن الأندلسية وأكبر قواعد المسلمين هناك، وكان سقوطها نذيراً بأسوأ العواقب لبقية الأندلس؛ ذلك أن ألفونس قال صراحة: «إنه لن يهدأ له بال حتى يسترد بقية الأندلس ويُخضع قرطبة لسلطانه؛ وينقل عاصمة ملكه إلى طليطلة». وكان أسوأ ما في هذه الكارثة المروعة أن ملوك الطوائف المسلمين لم يهبُّوا لنجدة طليطلة أو مساعدتها، بل على العكس وقفوا موقفاً مخزياً حتى أن بعضهم عرض على ألفونس تقديم العون والمساعدة، ورأى البعض الآخر أنه لكي يستمر في حكم مملكته آمناً يجب أن يوثق أواصر الصلة والمودة مع ألفونس ويحالفه ويقدم له الجزية السنوية، بل شاركت بعض قوات أمراء الطوائف في غزوة طليطلة، وقدم أحد هؤلاء الأمراء ابنته لتكون زوجة أو حظية لألفونس!! ورأى ألفونس حالة الضعف والجُبن التي يعاني منها أمراء الطوائف، والتي تعود في الأساس إلى ترفهم وخواء نفوسهم، وكرههم للحرب والجهاد حتى إن كان ذلك هو السبيل الوحيد للكرامة والحفاظ على البقية الباقية من الدين والمروءة؛ لذا رأى ألفونس السادس ضرورة إضعاف ملوك الطوائف قبل القضاء عليهم نهائيًّا؛ وكانت خطته في ذلك تقوم أولاً على تصفية أموالهم بفرض الجزية عليهم جميعًا، ثم تخريب أراضيهم وزرعهم ومحاصيلهم بالغارات المتتابعة، وأخيراً اقتطاع حصونهم وأراضيهم كلما سنحت الفرصة. ونجحت خطة ألفونس في ذلك كل النجاح، وبدا ضعف ملوك الطوائف أمامه واضحاً ملموساً؛ فاستهان بهم واحتقرهم، وقال عنهم: «كيف أترك قوماً مجانين تسمَّى كل واحد منهم باسم خلفائهم وملوكهم، وكل واحد منهم لا يسِل للدفاع عن نفسه سيفاً، ولا يرفع عن رعيته ضيماً ولا حيفاً»، وعاملهم معاملة الأتباع. أصبح ألفونس بعد استيلائه على طليطلة مجاوراً لمملكة أشبيلية وصاحبها المعتمد بن عباد، وعندها أدرك المعتمد فداحة خطئه في مصالحة ألفونس ومحالفته واستعدائه على أمراء الطوائف الآخرين، ولاحت له طوالع المصير المروع الذي سينحدر إليه إذا لم تتداركه يد العناية الإلهية بعون أو نجدة غير منتظرة؛ لذا كان من الطبيعي أن تتجه أنظار ابن عباد إلى دولة المرابطين القوية الفتية بقيادة أميرها الباسل يوسف بن تاشفين ليستنجد به وطلب منه النصرة ضد هؤلاء النصارى الذين تجمعوا من شمالي إسبانيا، فضلاً عن المتطوعين الصليبيين الذين قدموا من فرنسا وألمانيا وإيطاليا.
النزاع بين ألفونس السادس والمعتمد بدأ النزاع بين الملكين سنة 475 هـ / 1082م عندما وجه ألفونس سفارته المعتادة إلى المعتمد يطلب فيها الجزية السنوية، وكان على رأس السفارة يهودي يُدعى ابن شاليب حيث رفض تسلم الجزية بحجة أنها من عيار ناقص، وهدد بأنه إذا لم يُقدم له المال من عيار حسن فسوف تُحتل مدائن أشبيلية. ولمَّا علم المعتمد بما صدر عن اليهودي أمر بصلبه، وزج بأصحابه في السجن من القشتاليين، وعندما استشار الفقهاء استحسنوا ذلك الأمر؛ مخافة أن يتراجع المعتمد عن قراره بالصمود في وجه النصارى؛ أما ألفونس فقد استشاط غضباً، وبعث سراياه وجنوده للانتقام والسلب والنهب، وأغار هو بجيشه على حدود أشبيلية وحاصرها ثلاثة أيام ثم تركها، والمعتمد يلتزم الدفاع طيلة هذه العاصفة الهوجاء من الغضب الصليبي. الاستنجاد بالمرابطين حشد المعتمد رجاله، وقوَّى جيشه، وأصلح حصونه، واتخذ كل وسيلة للدفاع عن أرضه بعدما أيقن أن ألفونس يعتزم العمل على إبادتهم جميعاً، وأن المسلمين في أشبيلية بقدراتهم ومواردهم المحدودة لن يستطيعوا الدفاع؛ لذا قرر المعتمد أن يستنصر بالمرابطين في المغرب لمقاتلة هؤلاء النصارى، وكانت دولة المرابطين دولة جهاد وحرب، غير أن هذا الرأي واجه معارضة من بعض الأمراء الذين رأوا في المفاوضات والصلح والمهادنة والسلام وسيلة للأمن والاستقرار، ورأوا في المرابطين عدوًّا جديداً قد يسلب ملكهم، وقال الرشيد لأبيه المعتمد: «يا أبت أتُدخِل علينا في أندلسنا من يسلبنا ملكنا، ويبدد شملنا»، فرد عليه المعتمد: «أي بني، والله لا يسمع عني أبداً أني أعدت الأندلس دار كفر، ولا تركتها للنصارى، فتقوم اللعنة عليّ في الإسلام، مثلما قامت على غيري، رعي الجمال عندي والله خير من رعي الخنازير». وناشد ملوك الطوائف وعلى رأسهم المعتمد بن عباد المرابطين وأميرهم يوسف بن تاشفين لنجدتهم، بل إن المعتمد عبر إلى المغرب والتقى بابن تاشفين الذي وعده خيراً، وأجابه إلى ما طلب واشترط لإجابة الدعوة والعبور إلى الأندلس أن يسلم إليه المعتمد ثغر الجزيرة الخضراء ليكون قاعدة للمرابطين في الذهاب والإياب، فوافق المعتمد على ذلك.
العبور إلى الأندلس حشد يوسف بن تاشفين جنده وعتاده، ثم بعث بقوة من فرسانه بقيادة داود بن عائشة فعبرت البحر، واحتلت ثغر الجزيرة الخضراء، وفي ربيع الآخر 479 هـ / أغسطس 1086م بدأت جيوش المرابطين تعبر من سبته إلى الأندلس، وما كادت السفن تتوسط ماء مضيق جبل طارق حتى اضطرب البحر وتعالت الأمواج، فنهض ابن تاشفين ورفع يديه إلى السماء وقال: «اللهم إن كنت تعلم أن في جوازي هذا خيراً وصلاحاً للمسلمين فسهِّل عليَّ جواز هذا البحر، وإن كان غير ذلك فصعبه عليَّ حتى لا أجوزه»؛ فهدأت ثائرة البحر، وسارت السفن في ريح طيبة حتى رست على الشاطئ، وهبط منها يوسف، وخرَّ لله ساجداً. قوبل يوسف بن تاشفين بحفاوة بالغة هو وجنوده، وأمر قائده داود بن عائشة بالتقدم أمامه إلى بطليوس، كما أمر بأن توضع القوات الأندلسية كلها تحت قيادة المعتمد، وأن يكون لجند الأندلس محلتهم وللمرابطين محلتهم، وكان يوسف في تحركه شديد الحذر؛ لأنه لم يسبق له أن حارب جيشاً نصرانيًّا، كما أنه لم يكن واثقاً من حلفائه الأندلسيين؛ لذا رأى أن تكون المعركة في ناحية بطليوس، وألا يتوغل كثيراً في أرض الأندلس.
الزلاقة والنصر المبين ولما بلغ ألفونس نبأ تقدم المسلمين لملاقاته، فك الحصار الذي كان يضربه حول مدينة سرقسطة، واستدعى قائده البرهانس من بلنسية، وبعث مستغيثاً بجميع النصارى في شمال إسبانيا وما وراء جبال البرانيس، فتقاطرت عليه فرسان الصليبيين من إيطاليا وفرنسا، واعتزم أن يلقى المسلمين في أرضهم حتى لا تخرب بلاده، وكانت قواته تفوق المسلمين عدداً وعدة، وقد استقرت هذه الجيوش الصليبية على بعد ثلاثة أميال من المعسكر الإسلامي ولا يفصل بينهم إلا نهر صغير يسمى «جريرو»، وانضم إلى القوات الصليبية الرهبان والقسس يحملون أناجيلهم وصلبانهم، محفزين بذلك جنود النصارى. كانت قوات المسلمين تقدر بحوالي ثمانية وأربعين ألف مقاتل، تنقسم في وحدتين كبيرتين من قوات الأندلس، وتحتل المقدمة بقيادة المعتمد، أما القوات المرابطية فتحتل المؤخرة وتنقسم إلى قسمين، يضم الأول فرسان البربر بقيادة داود بن عائشة، والقسم الثاني احتياطي، يقوده يوسف بن تاشفين. ولبث الجيشان كل منهما في اتجاه الآخر ثلاثة أيام، وفشلت محاولة ألفونس خديعة المسلمين في تحديد يوم المعركة، وانتهى الأمر بنشوب المعركة مع أول ضوء من صباح يوم الجمعة 12 رجب 479 هـ / 23 أكتوبر 1086 م بهجوم خاطف شنَّه الفرسان الصليبيين على مقدمة المسلمين المؤلفة من القوات الأندلسية، فاختل توازن المسلمين وارتد فرسانهم نحو بطليوس، ولم يثبت إلا المعتمد بن عباد في مجموعة قليلة من الفرسان حيث قاتلوا بشدة، وأُثخن المعتمد بالجراح وكثر القتل في جند الأندلس، وكادت تحل بهم الهزيمة، وفي الوقت نفسه هاجم ألفونس مقدمة المرابطين وردها عن مواقعها. وأمام هذه المحنة التي تعرضت لها القوات المسلمة دفع يوسف بقوات البربر التي يقودها أبرع قواده وهو سير بن أبي بكر اللمتوني؛ فتغير سير المعركة، واسترد المسلمون ثباتهم، وأثخنوا النصارى قتلاً، وفي تلك الأثناء لجأ ابن تاشفين إلى خطة مبتكرة؛ إذ استطاع أن يشق صفوف النصارى، ويصل إلى معسكرهم، ويقضي على حاميته، ويشعل فيه النار؛ فلما رأى ألفونس هذه الفاجعة، رجع بسرعة شديدة، واصطدم الفريقان في قتال شرس، ودويّ طبول المرابطين يصم الآذان، وكثر القتل في الجانبين، خاصة في صفوف القشتاليين، ثم وجه ابن تاشفين ضربته الأخيرة إلى النصارى؛ إذ أمر حرسه الأسود، وقوامه أربعة آلاف مقاتل من ذوي البأس الشديد والرغبة في الجهاد بالنزول إلى أرض المعركة، فأكثروا القتل في القشتاليين واستطاع أحدهم أن يطعن ألفونس في فخذه طعنة نافذة كادت تودي بحياته. وأدرك ألفونس أنه وقواته يواجهون الموت إذا استمروا في المعركة، فبادر بالهروب مع قلة من فرسانه تحت جنح الظلام لم يتجاوزوا الأربعمائة حيث كان معظمهم جرحى فماتوا في الطريق، ولم ينج منهم إلا مائة فارس فقط.
ما بعد النصر كان انتصار المسلمين في الزلاقة نصراً عظيماً ذاعت أنباؤه في الأندلس والمغرب، واستبشر المسلمون به خيراً عظيماً، غير أن المسلمين لم يحاولوا استغلال نصرهم بمطاردة فلول النصارى المتبقية والزحف إلى أراضي قشتالة، بل لم يحاولوا السير إلى طليطلة لاستردادها، وهي التي كانت السبب الرئيسي في الاستعانة بالمرابطين، ويُقال إن ابن تاشفين اعتذر عن مطاردة القشتاليين لوصول أنباء إليه بوفاة أكبر أبنائه. ونتج عن هذا المعركة الحاسمة توقُّف ملوك الطوائف عن دفع الجزية لألفونس السادس، وأنقذ هذا النصر غرب الأندلس من الغارات المدمرة، وأفقد القشتاليين عدداً كبيراً من قواتهم، وأنعش آمال الأندلسيين وحطم خوفهم من النصارى، ورفع الحصار عن سرقسطة التي كادت أن تسقط في يد ألفونس، وحالت هذه المعركة دون سقوط الأندلس كلها في يد النصارى، ومدت في عمر الإسلام بالأندلس حوالي القرنين ونصف القرن.
بعد النصر قام الأندلسيون بمعاودة ما كانوا يفعلوه قبل المعركة فاقتتلوا فيما بينهم وتنازعوا على السلطة واستعانوا بالملوك النصرانيين في حروبهم ضد بعضهم. فقام ابن تاشفين باقتحام الأندلس ليزيل الفتنة فيها ويضمها موحدة إلى دولته.
لماذا كنا عظماء كتاب (أيام لا تنسى.. صفحات مهمة من التاريخ الإسلامي) تأليف تامر بدر
Post Your Comment
Lo siento, debes estar conectado para publicar un comentario.