هل سينزل سيدنا عيسى عليه السلام حاكمًا أم نبيَّاً..؟

27 ديسمبر 2019

هل سينزل سيدنا عيسى عليه السلام حاكمًا أم نبيَّاً..؟

عندما ستسأل هذا السؤال لأهلِ العلم ستسمع هذا الجواب: “لن يحكم سيدُنا عيسى عليه السلام بشرعٍ جديدٍ بل سينزل كما جاء في الصحيحين عن أبي هريرةَ أنه قال: قال رسول الله ﷺ: «والله لينزلنَّ ابنُ مريم حَكَماً عادلاً…….». أي حاكماً لا نبياً برسالةٍ جديدةٍ وإنما يحكم بشريعةِ محمدٍ ﷺ وأحكامه، لا نبوةَ جديدةً ولا أحكامَ جديدةً”.
قال النووي (رَحِمَه الله): “قوله ﷺ «حَكَما» أي ينزل حاكماً بهذه الشريعة، لا ينزل نبياً برسالةٍ جديدةٍ وشريعة ناسخة، بل هو حاكمٌ من حكام هذه الأمة”.
وقال القرطبيُّ (رحمه الله): “قوله و«إِمَامُكُمْ مِنْكُم» “فَأَمَّكُمْ” أيضاً قد فسره ابنُ أبي ذئبٍ في الأصل وتكميله: أن عيسى عليه السلام لا يأتي لأهلِ الأرض بشريعةٍ أخرى، وإنما يأتي مقرراً لهذه الشريعة ومجدداً لها، لأنَّ هذه الشريعة آخرُ الشرائعِ ومحمدٌ ﷺ آخر الرسلِ، ويدل على هذا دلالةً واضحة قولُ الأُمَّةِ لعيسى عليه السلام: «تَعَالَ فَصَلِّ لَنَا. فَيَقُولُ: لاَ. إِنَّ بَعْضَكُمْ عَلَى بَعْضٍ أُمَرَاءُ، تَكْرِمَةَ الله هٰذِهِ الأُمَّةَ»”.
وقال الحافظ ابنُ حجر: “قوله: «حَكَما» أي: حاكما. والمعنى: أنه ينزل حاكماً بهذه الشريعة؛ فإنَّ هذه الشريعةَ باقيةٌ لا تنسخ، بل يكون عيسى حاكماً من حكام هذه الأمة”.
وقال القاضي عياضٌ (رحمه الله تعالى): “ونزول عيسى المسيحِ وقتلُه الدجالَ حقٌّ صحيحٌ عند أهل السنة؛ لصحيح الآثار الواردةِ في ذلك؛ ولأنه لم يرد ما يبطله ويضعِّفُه، خلافاً لبعض المعتزلة والجهمية، ومن رأى رأيهم من إنكار ذلك، وزعمهم أنَّ قولَ اللهِ تعالى عن محمد ﷺ: «خَاتَمَ النَّبِيِّينَ»، وقوله ﷺ: «لَا نَبِيَّ بَعْدِي»، وإجماع المسلمين على ذلك، وعلى أنّ شريعةَ الإسلام باقيةٌ غيرُ منسوخةٍ إلى يوم القيامة – يرد هذه الأحاديث”.

دليلُ أنَّ سيدنا عيسى عليه السلام رُفِعَ نبيَّاً وسيعود نبيَّاً حاكماً:

إن أغلب العلماء يعتقد بأنّ سيدَنا عيسى  سيعود آخرَ الزمان حاكماً فقط لا نبياً وذلك لقناعتهم بأنه لا نبيَّ أو رسولَ بعد سيدِنا محمدٍ ﷺ ، مصداقاً لقوله تعالى: ﴿الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا﴾ [المائدة: 3]، وقوله تعالى في سورة الأحزاب: ﴿مَا كَانَ مُحَمَّدٌ أَبَا أَحَدٍ مِنْ رِجَالِكُمْ وَلَكِنْ رَسُولَ اللَّهِ وَخَاتَمَ النَّبِيِّينَ وَكَانَ اللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمًا﴾ [الأحزاب]. وكلُّ آراءِ العلماءِ التي ذكرناها سابقًا والتي تقول بأنَّ عودةَ سيدِنا عيسى عليه السلام ستقتصر على كونِه حاكمًا فقط وليس نبيًا هي نتيجةٌ طبيعيةٌ لمعتقدٍ ترسَّخ منذ قرونٍ بأنَّ سيدَنا محمدًا هو خاتمُ الأنبياءِ وكذلك خاتمُ المرسلين أيضًا، ولذلك فقد تجاهل أغلبُ العلماء كلّ الإشاراتِ والبشارات التي تثبت بأنَّ سيدنا عيسى عليه السلام سيعود نبياً كما كان من قبلِ أن يرفعه الله سبحانه وتعالى اليه، ومع احترامي الكاملِ لرأي أغلبِ العلماءِ الذين يعتقدون أنَّ سيدنا عيسى عليه السلام سيعود في آخر الزمان حاكماً فقط، فإنني أختلف معهم وأقول بأنّ سيدنا عيسى عليه السلام رفعه الله سبحانه وتعالى نبياً وسيعود في آخر الزمان نبياً وحاكماً في ذات الوقت، مثلما كان الحالُ مع سيدنا محمدٍ ﷺ وسيدِنا داوودَ وسيدِنا سليمانَ (عليهما السلام) بل جاء عن نبينا ﷺ بأنَّ سيدنا عيسى عليه السلام سيضع الجزيةَ وهذا ليس من الشريعةِ الإسلامية، بل إنه أيضًا سيعمل بأمرِ الله سبحانه وتعالى ولن ينسخَ شريعةَ الله المنزلةَ على سيدِنا محمدٍ ﷺ بل هو متَّبعٌ لها، والمهدي مثله تابعٌ للنبيِّ ﷺ عاملٌ بشريعتِه ولا ينافي أبدا هذا كونَهما رسولين مسلمين من الله سبحانه وتعالى برسالةٍ محددةٍ إلى العالم، والأدلةُ التي غفل عنها العلماءُ على كونِ سيدنا عيسى عليه السلام سيعود نبياً كثيرةٌ ومنها ما يلي:

1 – قولوا خاتم النبيين ولا تقولوا لا نبي بعده:

قال جلالُ الدين السيوطي في كتاب (الدرِّ المنثور): “أخرج ابنُ أبي شيبه عن عائشة رضي الله عنها قالت: “قولوا خاتم النبيين ولا تقولوا لا نبي بعده” وأخرج ابنُ أبي شيبه عن الشعبي رضي الله عنه قال: قال رجلٌ عند المغيرةِ بنِ شعبة صلى اللهُ على محمدٍ خاتمِ الأنبياء لا نبيَّ بعده فقال المغيرةُ: حسبُك: إذا قلت خاتمُ الأنبياء فإنَّا كنَّا نحدث أنَّ عيسى عليه السلام خارجٌ، فإن هو خرج فقد كان قبلَه وبعده”.
وفي كتابِ يحيى بن سلام في تفسير قوله تعالى ﴿ وَلَكِنْ رَسُولَ اللَّهِ وَخَاتَمَ النَّبِيِّينَ﴾ عن الربيعِ بن صبيح، عن محمدِ بنِ سيرين، عن عائشةَ رضي الله عنها قالت: “لا تَقُولُوا: لا نَبِيَّ بَعْدَ مُحَمَّدٍ، وَقُولُوا: خَاتَمُ النَّبِيِّينَ، فَإِنَّهُ يَنْزِلُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ حَكَمًا عَدْلا وَإِمَامًا مُقْسِطًا، فَيَقْتُلُ الدَّجَّالَ، وَيَكْسِرُ الصَّلِيبَ، وَيَقْتُلُ الْخِنْزِيرَ، وَيَضَعُ الْجِزْيَةَ، وَتَضَعُ الْحَرْبُ أَوْزَارَهَا”.
إن السيدة عائشةُ رضي الله عنها كانت تعلم يقينا أن نعمةَ الوحي والرسالةِ مستمرةٌ في أتباعِ الصادقِ الأمين، وأرادت بيانَ الفهم الصحيحِ لخاتم النبيين البعيدِ عن كلِّ أشكال التعارض، فخاتم النبيين تعني أن شريعته هي الخاتمة، فلن ينالَ مكانةَ رسولِ الله ﷺ أحدٌ من خلقِ الله سبحانه وتعالى قاطبة، وهي منزلةٌ رفيعةٌ خالدةٌ لا تزول عن النبيِّ المصطفى سيدنا محمدٍ ﷺ.
وقد فسَّر ابنُ قتيبةَ الدينوريُّ قولَ عائشةَ ل فقال: “وأما قولُ عائشةََ رضي الله عنها قولوا لرسولِ الله خاتَم الأنبياء، ولا تقولوا لا نبيَّ بعده، فإنَّها تذهب إلى نزولِ عيسى عليه السلام وليس هذا من قولِها بناقضٍ لقولِ النبيّ ﷺ لا نبيَّ بعدي، لأنَّه أراد لا نبيَّ بعدي ينسخ ما جئت به، كما كانت الأنبياءُ (صلّى الله عليهم وسلم) تُبعث بالنسخ، وأرادت هي لا تقولوا إنَّ المسيح لا ينزلُ بعده”.
انما مثل سيدنا عيسى عليه السلام عند ظهورِه آخر الزمان عاملاً بالشريعةِ الإسلامية، مثله في ذلك مثل سيدنا داودَ وسيدنا سليمانَ -عليهما السلام- الذين كانا نبيَّين وحاكمين على شريعةِ سيدِنا موسى عليه السلام فلم يستبدلا شريعةَ سيدنا موسى بشريعةٍ أخرى بل عملا وحكما بنفس شريعةِ سيدنا موسى عليه السلام، وكذلك سيفعل سيدُنا عيسى عليه السلام عند نزوله آخرَ الزمان.

2 – ليس بيني وبينه نبي:

عن أبي هريرةَ عن النبيِّ ﷺ قال: «الْأَنْبِيَاءُ أُمَّهَاتُهُمْ شَتَّى، وَدِينُهُمْ وَاحِدٌ، وَأَنَا أَوْلَى النَّاسِ بِعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ، لِأَنَّهُ لَمْ يَكُنْ بَيْنِي وَبَيْنَهُ نَبِيٌّ، وَهُوَ خَلِيفَتِي عَلَى أُمَّتِي، وَهُوَ نَازِلٌ، …..».
فالنبيُّ ﷺ لم يقل في هذا الحديث الذى يتناول قصة نزول سيدنا عيسى آخر الزمان (ليس بيني وبين قيامِ الساعة نبيٌّ) بل قال: «لَمْ يَكُنْ بَيْنِي وَبَيْنَهُ نَبِيٌّ» وهذا يدل على استثناء سيدنا عيسى عليه السلام من كون النبي ﷺ بأنه خاتم النبيين.
ونكرر ونؤكد هنا ما قاله سيدُنا محمدٌ ﷺ: « لَمْ يَكُنْ بَيْنِي وَبَيْنَهُ نَبِيٌّ» ولم يقل النبي ﷺ: (ليس بيني وبينه رسولٌ) لأنَّ بين سيدِنا محمدٍ ﷺ وسيدنا عيسى عليه السلام الرسول المهدي.

3 – يبعثه الله سبحانه وتعالى

في صحيح مسلمٍ بعد ذكر فتنةِ الدجال: «فَبَيْنَمَا هُوَ كَذَلِكَ إِذْ بَعَثَ اللَّهُ الْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ فَيَنْزِلُ عِنْدَ الْمَنَارَةِ الْبَيْضَاءِ شَرْقِيَّ دِمَشْقَ بَيْنَ مَهْرُودَتَيْنِ وَاضِعًا كَفَّيْهِ عَلَى أَجْنِحَةِ مَلَكَيْنِ…».
والبعث كما ذكرنا من قبل يعني الإرسال أي أنَّ اللهَ سبحانه وتعالى سيرسل المسيحَ فينزل عند المنارة البيضاء، فمعنى (بعث الله) أي (أرسل الله) أي سيكون رسولاً، فالكلمة واضحةٌ وضوحَ الشمس، فلمَ الإصرارُ على التركيز على كلمةِ (حاكماً) فقط دون كلمة البعث..؟
هذا بالإضافة إلى معجزةِ نزوله من السماءِ واضعًا كفيه على أجنحة مَلَكَيْنِ، فهل يجب على سيدنا محمدٍ ﷺ في هذا الحديث أن يقولَ بلفظٍ صريحٍ وواضحٍ بعد هذا كلِّه بأنه سيعود نبياً..؟ ألا يكفي كلمةُ البعث ومعجزةُ النزول من السماء لإثبات كونه سيعود نبياً..؟

 

4 – كسر الصليب ووضع الجزية

عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسولُ الله ﷺ: «والذي نفسي بيده، ليوشكنَّ أن ينزلَ فيكم ابنُ مريمَ حكماً وعدلاً، فيكسر الصليب، ويقتل الخنزيرَ، ويضع الجزيةَ، ويفيض المالُ، حتى لا يقبله أحد…». قال ابنُ الأثيرِ (رحمه الله): “وضعُ الجزية هو إسقاطُها عن أهلِ الكتاب، وإلزامُهم بالإسلام، ولا يقبل منهم غيره، فذلك معنى وضعها”.
«وَيَضَعُ الْجِزْيَةَ»: اختلف في معناها العلماء، فقيل: أي يقررها ويفرضها على جميع الكفار فإما الإسلام أو دفع الجزيةِ وهو قول القاضي عياض (رحمه الله).
وقيل: يسقطها فلا يقبلُها من أحدٍ لكثرةِ الأموالِ فيكون أخذُها لا منفعةَ فيه للإسلام.
وقيل: لا يقبل من أحدٍ الجزية، وإنما القتلُ أو الإسلام، لأنه لا يُقبل من أحدٍ يومئذ إلا الإسلامُ لحديث أبي هريرةَ رضي الله عنه عند أحمد: «وتكون الدعوى واحدة» أي لا يكون إلا الإسلامُ وهو اختيارُ النووي وعزاه للخطابيّ واختارَه بدرُ الدين العيني، وهو قول ابنُ عثيمين (رحمهم الله جميعا) وهو الأظهر والله أعلم.
وتعريف النسخ هو: “رفعُ حكمٍ شرعيٍّ سابقٍ، بدليلٍ شرعيٍّ متأخرٍ عنه” ولا يكون إلا من عند اللهِ سبحانه وتعالى بأمره وحكمه، فله أن يأمرَ عباده بما شاء، ثم ينسخ ذلك الحكم، أي: يرفعه ويزيله.
إن حقيقة نسخ (أي تغييرِ وإزالة) سيدِنا عيسى عليه السلام لحكمٍ شرعيٍّ جاءت به نصوصٌ عديدةٌ وصريحةٌ من القرآن والسنةِ هي حقيقة تُثبت كونه نبيَّاً بُعث من عند الله سبحانه وتعالى بأمرٍ يغيِّرُ فيه هذا الحكم. وكونُ النبيِّ ﷺ أخبرنا بأنَّ سيدنا عيسى عليه السلام سيضع الجزيةَ لا يغير من هذه الحقيقةِ شيئا، فكلا الحقيقتين سواءٌ أنَّ سيدنا عيسى عليه السلام سيضع الجزيةَ أو كونه سيعود نبياً فهي حقيقةٌ أخبرنا بها النبيُّ ﷺ منذ أكثرَ من أربعةَ عشر قرنا.
والجزيةُ مشروعةٌ في دين الإسلام، كما في قوله تعالى: ﴿قَاتِلُوا الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلَا بِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَلَا يُحَرِّمُونَ مَا حَرَّمَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَلَا يَدِينُونَ دِينَ الْحَقِّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حَتَّىٰ يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَن يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ (29)﴾ [التوبة]. فنسخ أحكامٍ منصوصٍ عليها في القرآن الكريم والسنة النبوية لا يكون إلا عن طريق نبيٍّ يوحى إليه، فحتى الرسولُ المهدي الذي سيظهر قبل سيدنا عيسى عليه السلام لن يستطيعَ تغييرَ هذه الأحكام، فهذه ليست من مهامِّه كرسولٍ، بل هي من مهامِّ النبيِّ عيسى عليه السلام كونه سيعود نبيًا.
أما عن سببِ وضعِ الجزية في زمانِ عودةِ سيدنا عيسى عليه السلام في آخرِ الزمان فقد قال العراقيّ (رحمه الله تعالى): “ويظهرُ لي أنَّ قبولَ الجزيةِ من اليهود والنصارى لشبهةِ ما بأيديهم من التوراة والإنجيل، وتعلقهم ـ بزعمهم ـ بشرعٍ قديمٍ؛ فإذا نزل عيسى، زالت تلك الشبهةُ، لحصولِ معاينته؛ فصاروا كعبدةِ الأوثان في انقطاعِ شبهتهم، وانكشافِ أمرهم؛ فعوملوا معاملتَهم في أنه لا يُقبل منهم إلا الإسلام، والحكم يزول بزوال علته”.
إنَّ سيدنا عيسى عليه السلام لن ينسخَ القرآنَ ولن يستبدله بكتابٍ آخرَ وشريعةٍ أخرى بل سينسخ حكمًا واحدًا أو أكثر من أحكام القرآنِ الكريم، وسيحكم سيدنا عيسى عليه السلام بالشريعة الإسلاميةِ وسيكون مُصَدِّقًا وعاملاً بالقرآن الكريم فقط وليس عاملا بكتابٍ آخر غيرِه سواءٌ كانت التوراةُ او الإنجيل، مثله في ذلك كمثلِ ما كان من قبل نبياً في بني إسرائيل، فسيدنا عيسى عليه السلام كان مؤمنا بالتوراةِ التي أنزلت على موسى عليه السلام، متبعا لها، ولم يخالفها إلا في أشياءَ قليلةٍ، قال تعالى: ﴿ وَقَفَّيْنَا عَلَىٰ آثَارِهِمْ بِعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ التَّوْرَاةِ وَآتَيْنَاهُ الْإِنْجِيلَ فِيهِ هُدًى وَنُورٌ وَمُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ التَّوْرَاةِ وَهُدًى وَمَوْعِظَةً لِلْمُتَّقِينَ﴾ [المائدة]. وقال تعالى: ﴿ وَمُصَدِّقًا لِّمَا بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التَّوْرَاةِ وَلِأُحِلَّ لَكُم بَعْضَ الَّذِي حُرِّمَ عَلَيْكُمْ ۚ وَجِئْتُكُم بِآيَةٍ مِّن رَّبِّكُمْ فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ﴾ [آل عمران].
قال ابنُ كثير (رحمه الله) في تفسيره: “﴿وَمُصَدِّقًا لِّمَا بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التَّوْرَاةِ﴾ أي: متبعًا لها، غير مخالف لما فيها، إلا في القليلِ مما بيّن لبني إسرائيل بعض ما كانوا يختلفون فيه، كما قال تعالى إخبارًا عن المسيحِ أنه قال لبني إسرائيل: ﴿ وَلِأُحِلَّ لَكُم بَعْضَ الَّذِي حُرِّمَ عَلَيْكُمْ﴾ [آل عمران: 50]؛ ولهذا كان المشهورُ من قولِ العلماء أن الإنجيلَ نسخ بَعْضَ أحكامِ التوراة”.
لقد كان سيدُنا عيسى عليه السلام متبعاً للتوراة حافظاً لها مُقِرَّا بها؛ لأنه من جملة أنبياءِ بني إسرائيل، ثم أنزل اللهُ سبحانه وتعالى عليه الإنجيلَ وفيه تصديقٌ لما في التوراة، إلا أنَّ سيدنا عيسى عليه السلام عندما يعود آخرَ الزمان سيكون مُتبعاً للقرآن حافظاً له وَمُصَدِّقًا لما جاء فيه، فلن ينسخَ القرآنَ الكريمَ ولن يستبدله بكتابٍ آخر، ولكنه سينسخ حُكماً واحدا أو أكثر، فلن يُنزَّلَ عليه كتابٌ جديدٌ من الله سبحانه وتعالى، فهذا هو الفرقُ بين مهمَّةِ سيدنا عيسى عليه السلام في الماضي ومهمتهِ في آخر الزمان، والله أعلم.

5 – يُحدث الناس بدرجاتهم في الجنة:

في صحيحِ مسلمٍ بعد ذكر قتلِ سيدنا عيسى عليه السلام للدجال قال النبيُّ ﷺ: «ثُمَّ يَأْتِي عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ قَوْمٌ قَدْ عَصَمَهُمْ اللَّهُ مِنْهُ فَيَمْسَحُ عَنْ وُجُوهِهِمْ وَيُحَدِّثُهُمْ بِدَرَجَاتِهِمْ فِي الْجَنَّةِ».
هل سيُخبر سيدنا عيسى عليه السلام بدرجاتِ الناسِ في الجنة من تلقاء نفسه..؟
هل سيدنا عيسى عليه السلام يعلم الغيب..؟
هل هناك حاكمٌ أو رجلٌ عاديٌّ من بني آدمَ يستطيع أن يفعل ذلك..؟
بالطبع ستكون الإجابةُ بلا، فمن يفعل ذلك لا يكون الا نبيًا أعطاه الله سبحانه وتعالى هذه القدرةَ، وهذه إشارةٌ أخرى على كونِ سيدنا عيسى عليه السلام سيعود نبياً من دون الحاجةِ إلى أن يخبرنا النبيُّ ﷺ في نفس هذا الحديث بلفظٍ صريحٍ بأنه سيعود نبيًا؛ فهذا الدليل لا يحتاج إلى ذكرِ توضيح آخرَ في نفس هذا الحديثِ حتى نثبت بأنه سيعود نبيا.

6 – يقتل المسيح الدجال:

سيكون هلاكُ أعظمِ فتنةٍ على وجهِ الأرض منذ خُلقَ آدمُ إلى قيامِ الساعة على يد سيدنا عيسى عليه السلام ، كما دلت على ذلك الأحاديثُ الصحيحةُ، فالمسيحُ الدجالُ ستعمُّ فتنتهٌ الأرض قاطبةً ويكثرُ أتباعه، ولا ينجو منها إلا قلةٌ من المؤمنين، فلن يستطيعَ قتله سوى شخصٍ واحدٍ أعطاه الله سبحانه وتعالى القدرةَ على ذلك، حيث سيقتله سيدنا عيسى عليه السلام بحربته عند بابِ لُدّ بفلسطين.
إنَّ قدرةَ قتلِ المسيح الدجال لا تُعطَى إلا لنبيٍّ بدليل قول النبيِّ ﷺ: «غَيْرُ الدَّجَّالِ أَخْوَفُنِي عَلَيْكُمْ، إِنْ يَخْرُجْ وَأَنَا فِيكُمْ، فَأَنَا حَجِيجُهُ دُونَكُمْ، وَإِنْ يَخْرُجْ وَلَسْتُ فِيكُمْ، فَامْرُؤٌ حَجِيجُ نَفْسِهِ، وَاللهُ خَلِيفَتِي عَلَى كُلِّ مُسْلِمٍ». فالنبيُّ ﷺ يُخبر أصحابه بأنَّ الدجالَ لو خرج في زمنه فإنه قادرٌ عليه، ولكن وإن خرج وليس فيهم فكلُّ إنسانٍ يحاججُ عن نفسِه والله سبحانه وتعالى خليفتُه على كلِّ مؤمن، فاستخلف ربه عزوجل أن يكون مؤيدًا للمؤمنين واقيًا لهم من فتنِ الدجال الذي ليس بين خلق آدمَ وقيام الساعةِ فتنةٌ أشدُّ منها.

خطورة الاعتقاد بأنّ سيدَنا عيسى عليه السلام سيعود آخرَ الزمان حاكماً فقط:

إنَّ من يعتقد بأنَّ سيدنا عيسى عليه السلام سيعود آخرَ الزمان حاكمًا سياسيَّاً فقط ولا علاقةَ له بالدين سوى أن يضع الجزيةَ ويكسرَ الصليبَ ويقتلَ الخنزير، فإنّه بذلك لا يدرك خطورةَ هذا الاعتقادِ وتوابعه، وقد فكَّرتُ في توابعِ هذا الاعتقاد فوجدت أنه سيؤدي إلى فتنةٍ وأخطارٍ عظيمة، لو أدركها من يعتقدون بهذا الاعتقادِ لتغيَّرت آراؤهم وفتاويهم، فتعالَ معي أخي القارئُ لتتصوَّرَ معي خطورةَ هذا الاعتقادِ عندما يعيش بيننا سيدُنا عيسى عليه السلام حاكماً لنا لمدةِ سبعةِ أعوامٍ أو أربعين عاماً كما ذُكرت في الأحاديث النبوية الشريفة:
1- مع هذا الاعتقاد سيكون سيدُنا عيسى عليه السلام حاكمًا سياسيَّاً فقط لا دخل له بالشأن الديني، فالمسائلُ الفقهيةُ تكون في أيدي علماءِ الدين العاديين في عهده.
2- مع هذا الاعتقاد فإنَّ أي مسألةٍ فقهيةٍ لن يكون له كلمةُ الفصل فيها، فرأيه الدينيُّ لن يعدو كونه رأيًا من ضمن باقي الآراء الفقهية التي يجوز للمسلمين الأخذُ بها أو الأخذ من غيرها.
3- مع هذا الاعتقادِ فإنه من أفضلِ الأحوال لتدخل سيدنا عيسى عليه السلام في الدين سيعدو كونه مجددًا للدين، ومعنى ذلك أنَّ رأيَه سيكون نابعًا من وجهةِ نظرِه وليس نابعاً من وحيٍ يوحى إليه، والفرقُ شاسعٌ في الحالتين، فالحالةُ الأولى يمكن لأيِّ شخصٍ أو عالمِ دينٍ الجدالُ مع سيدنا عيسى عليه السلام في آرائه الدينيةِ التي سيقولها فإما أن يكونَ مصيباً في رأيه الشخصيِّ وإما أن يكونَ مخطئاً، أما في الحالة الثانية فإنَّ رأي سيدِنا عيسى عليه السلام سيكون نابعاً من وحيٍ يوحى إليه فلا يجوز لأحدٍ الجدال فيه.
4- مع هذا الاعتقادِ وكونه حاكماً عادلاً فقط فستجد أيَّ مسلمٍ يقوم إلى سيدِنا عيسى عليه السلام ليعارضه ويصدَّه عندما يقول رأيه في أيِّ مسألةٍ فقهيةٍ، ويقول لسيدِنا عيسى عليه السلام: ((أنت وظيفتك: حاكمٌ سياسيٌّ فقط ولا دخلَ لك بالشأن الديني))! وهذا واردٌ الحدوث في دولةٍ بها ملايين المسلمين من ذوي النفوس المختلفة، سواء كانت نفوسًا طيبةً أو نفوسًا خبيثةً.
5- مع هذا الاعتقاد فمن الوارد ألا يكونَ سيدُنا عيسى عليه السلام مُلِمَّاً بالقرآن وعلومِه وأنّ هناك من العلماءِ من سيكون أفضلَ منه، فيسألهم الناس عن المسائلِ الفقهية ولا يسألون سيدنا عيسى عليه السلام. ولكن مع الحالةَ الأخرى كونه نبيَّا فإنَّ الله سبحانه وتعالى سيبعثه نبيًا وحاكمًا بشريعةِ الإسلام فبالتأكيد سيكون عنده علومُ القرآن والسنة التي يستطيع بها ان يحكم بين الناس.
6- تصور معي أخي الكريم أنَّ أيَّ مسلمٍ سيذهب إلى سيدِنا عيسى عليه السلام حتى يسأله عن تفسير آيةٍ ما في القرآن أو يسأله عن أيِّ مسألةٍ دينيةٍ فسيكون الردُّ من سيدنا عيسى عليه السلام مع هذا الاعتقاد: (تفسير الآية الكريمة هي ما قاله القرطبيُّ هي كذا، أو أن تفسيرها هو ما قاله الشعراوي هي كذا وكذا وأنا كسيدِنا عيسى أميلُ إلى رأي ابنِ كثير مثلاً) وللسائل في هذه الحالةِ اختيارُ التفسير المناسبِ لأهوائه بناءً على هذا الاعتقاد.

– مع هذا الاعتقاد هل تتخيل أخي الكريم كل هذه المواقف التي ستحدث مع سيدنا عيسى عليه السلام عندما سيعود الى آخر الزمان كحاكماً فقط بلا وحي يوحى اليه كما كان من قبل؟

هذه بعضُ المواقف التي تخيلتها مع هذا الاعتقادِ من واقع طبيعةِ اختلاف النفوس البشرية التي نراها في كلِّ وقتٍ وفي أيِّ زمان، وبالتأكيد فهناك مواقفُ أخرى سيتعرض لها سيدنا عيسى عليه السلام مع هذا الاعتقادِ، فهل سيرضى سيدُنا عيسى عليه السلام بهذا الوضعِ الغريب؟
هل ترضى أنت يا أخي الكريمُ لأحدِ أنبياءِ الله سبحانه وتعالى أن يعودَ لنا في آخرِ الزمان كإنسانٍ عاديٍّ بلا وحيٍ يوحى إليه؟
وهل سيرضى الله سبحانه وتعالى هذا الوضعَ السيئَ لرسولِه الذى هو روح منه؟
وهل من العدلِ أن يُعيدَ اللهُ سبحانه وتعالى سيدَنا عيسى عليه السلام إلى الدنيا بمكانةٍ أقلَّ مما كان عليها من قبل، حتى وإن كان حاكمًا للعالم كلِّه؟
ضع نفسك مكانَ سيدِنا عيسى عليه السلام هل ستختار أن تعودَ إلى الدنيا نبياً كما كنت من قبل أم حاكماً تُواجهُ كلَّ هذه الإساءات؟
إنَّ سيدَنا عيسى عليه السلام سيُعيده الله سبحانه وتعالى والله أعلم في آخر الزمان نبيًا أو رسولا أو نبيًا رسولا يوحى إليه مُعزَّزًا مكرَّمًا كما كان من قبلُ، ولن يُنقص الله سبحانه وتعالى مكانته عند عودته. كما سيعود سيدُنا عيسى عليه السلام ومعه علومُ القرآن والسُّنةِ وسيكون عنده إجابةٌ للفصلِ في المسائلِ الفقهية المختلف عليها، وسيحكم بشريعةِ نبينا محمدٍ ﷺ فلن ينسخَ القرآنَ الكريمَ بكتابٍ آخرَ، وفى عهدِه سيظهر الإسلامُ على الدين كلِّه، بل إنني لا أستبعد أن يؤيدَه الله سبحانه وتعالى بالمعجزاتِ التي أيَّده بها من قبلِ ان يرفعَه إليه كمثل أنه يخلق من الطينِ كصورةِ الطيرِ فينفخ فيها فيتحولُ إلى طائرٍ يطير، وانه يبرئ الأكمَه والأبرص فيشفَى بإذنِ الله سبحانه وتعالى وأنه يُحيي الموتى بإذنِ الله، وأنه يُخبر الناسَ بما في بيوتهم، وسيؤيده الله سبحانه وتعالى بمعجزاتٍ وبيناتٍ أخرى في آخر الزمان والتي ذكرها نبينا سيدنا محمد ﷺ مثل إخبار الناس بدرجاتِهم في الجنةِ.
هذا بالإضافة إلى أنني أعتقد بأن سيدِنا عيسى عليه السلام هو الرسولُ المُشار إليه في سورة البينة حيث سيتفرق أهل الكتاب في عهده بعد أن يأتيَهم سيدنا عيسى عليه السلام بالبينة، وأن تأويلَ القرآن الكريم سيكون في عهده كما أوضحنا في فصلٍ سابقٍ وما جاء في الآيات الكريمة: ﴿هَلْ يَنظُرُونَ إِلَّا تَأْوِيلَهُ يَوْمَ يَأْتِي تَأْوِيلُهُ﴾ و ﴿ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا بَيَانَهُ﴾ و ﴿وَلَتَعْلَمُنَّ نَبَأَهُ بَعْدَ حِينٍ﴾، والله اعلم.

arAR